أصحيحٌ كلّ ذلك؟
بقلم: المطران بطرس المعلم
أقرأ فلا أكاد أفهم، وأسمع فلا أكاد أصدّق، وأنظر فيكاد يُغمى عليّ. معقول؟ ممكن؟ ولكن وسائل الإعلام مجمعة على صحة الخبر
هل وحده المعقول يحدث؟ أم صار المستحيل واقعا؟
يومَ الأحد الماضي (31 تشرين الأول)، الساعة السادسة مساء. يدخل المؤمنون كنيسة "سيدة النجاة" للسريان الكاثوليك في بغداد، ويبدأ القداس الإلهي: "بسلامٍ إلى الرب نطلب – لأجل السلام الذي من العلى الى الرب نطلب – لأجل سلام العالم أجمع، والسلام للعراق خصوصا الى الرب نطلب ..."، فيما الكاهن الشاب ثائر العبد الله يبخّر حول "المذبح"، يساعده القس رائد والشماس نبيل، وإلى جانبهم صِبية يحملون شموعا.
وعند درجات الهيكل أطفال يجلسون على الأرض أو يَحْبون عليها تحت نظر أمهاتم. - القارئ يتلو من سفر المزامير: "مِن أجلك نُقتَل كل يوم، حُسِبنا مثل غنم للذبح" (44/43: 23)، ومن نبوءة أشعيا: "كنعجةٍ سيقَ الى الذبح، وكخروفٍ صامت أمام الذين يجُزّونه، هكذا لم يفتح فاه" (53: 7). والمرنّم يرتّل من بولس: "نُشتَمُ فنبارِك، نٌصطهَد فنحتمل، يُشَنَّع علينا فنتضرّع" (1 كورنثس 4: 12). ويعلن الشماس تلاوة الإنجيل من المنبر: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل المسيئين إليكم" (لوقا 6: 27-28). "ليس التلميذ فوق معلمه... حسب التلميذ أن يكون كمعلمه. فإذا كانوا اضطهدوني، فسيضطهدونكم أنتم أيضا، وكل هذا سيفعلونه بكم من أجل اسمي... ستأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقرّب لله قربانا.." (يوحنا 15: 20-21؛ 16: 2). "ها أنا مرسلكم مثل خراف بين ذئاب" (متى 10: 16)...
وفجأة ينقضّ على المصلّين ذئابٌ بشرية، فينتضون الخناجر والسيوف، يطعنون بها الظهور، ويبقرون البطون، ويحزّون الرؤوس، فيفصلونها ويدحرجونها على الأرض، بدءا بمن كانوا الأقرب إلى المذبح، لا يشفقون على كاهن ولا امرأة ولا طفلة في الثامنة يذبحونها أمام أمها. ونحجم عن تفصيل ما تستفيض في وصفه وسائل الإعلام، وكله مقزّز مقرف يحمل على الغثيان. ثم يتمّون بطولاتهم بتفجير أحزمة ناسفة، تتناثر بعدها الأشلاء في كل مكان. وهكذا، وفي لحظات، ووسط الصراخ والعويل والفوضى، تتجسد قراءات النهار واقعا مأساويا، وتنقلب "ذبيحة القداس غير الدموية" مذبحة دامية تقشعرّ لهولها الأبدان، وتتحول أرض الكنيسة الى بركة دم تعوم فيها الجثث والأشلاء، ربي، مسيحي، أين أنت؟ يكاد تماسُكي ينهار.
غضبٌ مقدس يغلي اليوم في عروقي لم أعرفه يوما من قبل. كفى، طفح الكيل. ألم تقل: "سيبغضونكم من أجل اسمي، ولكن شعرة من رؤوسكم لا تهلك" (لوقا: 21: 18). هل هي شعرة سقطت، أم عشرات أرواح الأبرياء قضت؟ ما ذنبهم؟ أين أنت؟.
- أتراك أنتَ أيضٍا تفكر بامتشاق السيف، كما فعل يوما سميّك بطرس، حين استلّ السيف في بستان الزيتون ليدافع عني في وجه عصابة يهوذا؟ أنسيتَ ما قلتٌه له: ردّ سيفك إلى غمده، فما أنا بحاجة إلى سلاح يحميني، ومن يأخذ بالسيف فبالسيف يهلك. أفنسيتَ ذلك؟
- ربي، عفوك، إيماني اليوم يتزعزع، كما تزعزع إيمان بطرس وهو يمشي على سطح البحيرة
- يا قليل الإيمان، قلتُ له، لماذا شككت؟ ومددتُ يدي فأصعدتُه إلى السفينة، وهدأ البحر.
- ربي، عفوك، فمدّ يدك وانتشلني. ولكن عفوك أيضا، فأنا إلى الآن لا أهضم ما أقرأ واسمع وأرى.
- فكيف إذن تصلي كل يوم: لنصلِّ لأجل مبغضينا ومحبينا، واغفر يا رب لمغضينا وظالمينا؟
- ولكني سألتك يوما: كم مرة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أإلى سبع مرات؟
- ألم أجبك: لا اقول لك: إلى سبع مرات، بل: إلى سبعين مرة سبع مرات؟
- ربي، كلامك صعب!
- فكيف لو تبعتني إلى قمة الجلجلة وسمعتَ آخر كلماتي على الصليب: يا أبتاه إغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون؟
- إذن تريد أن تعود بي إلى بغداد، إلى كنيسة "سيدة النجاة". فمعك إلى هناك، وقد ألقيتُ سلاحي. ومعك أردد: يا أبتاه إغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون
بقلم: المطران بطرس المعلم
أقرأ فلا أكاد أفهم، وأسمع فلا أكاد أصدّق، وأنظر فيكاد يُغمى عليّ. معقول؟ ممكن؟ ولكن وسائل الإعلام مجمعة على صحة الخبر
هل وحده المعقول يحدث؟ أم صار المستحيل واقعا؟
يومَ الأحد الماضي (31 تشرين الأول)، الساعة السادسة مساء. يدخل المؤمنون كنيسة "سيدة النجاة" للسريان الكاثوليك في بغداد، ويبدأ القداس الإلهي: "بسلامٍ إلى الرب نطلب – لأجل السلام الذي من العلى الى الرب نطلب – لأجل سلام العالم أجمع، والسلام للعراق خصوصا الى الرب نطلب ..."، فيما الكاهن الشاب ثائر العبد الله يبخّر حول "المذبح"، يساعده القس رائد والشماس نبيل، وإلى جانبهم صِبية يحملون شموعا.
وعند درجات الهيكل أطفال يجلسون على الأرض أو يَحْبون عليها تحت نظر أمهاتم. - القارئ يتلو من سفر المزامير: "مِن أجلك نُقتَل كل يوم، حُسِبنا مثل غنم للذبح" (44/43: 23)، ومن نبوءة أشعيا: "كنعجةٍ سيقَ الى الذبح، وكخروفٍ صامت أمام الذين يجُزّونه، هكذا لم يفتح فاه" (53: 7). والمرنّم يرتّل من بولس: "نُشتَمُ فنبارِك، نٌصطهَد فنحتمل، يُشَنَّع علينا فنتضرّع" (1 كورنثس 4: 12). ويعلن الشماس تلاوة الإنجيل من المنبر: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل المسيئين إليكم" (لوقا 6: 27-28). "ليس التلميذ فوق معلمه... حسب التلميذ أن يكون كمعلمه. فإذا كانوا اضطهدوني، فسيضطهدونكم أنتم أيضا، وكل هذا سيفعلونه بكم من أجل اسمي... ستأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقرّب لله قربانا.." (يوحنا 15: 20-21؛ 16: 2). "ها أنا مرسلكم مثل خراف بين ذئاب" (متى 10: 16)...
وفجأة ينقضّ على المصلّين ذئابٌ بشرية، فينتضون الخناجر والسيوف، يطعنون بها الظهور، ويبقرون البطون، ويحزّون الرؤوس، فيفصلونها ويدحرجونها على الأرض، بدءا بمن كانوا الأقرب إلى المذبح، لا يشفقون على كاهن ولا امرأة ولا طفلة في الثامنة يذبحونها أمام أمها. ونحجم عن تفصيل ما تستفيض في وصفه وسائل الإعلام، وكله مقزّز مقرف يحمل على الغثيان. ثم يتمّون بطولاتهم بتفجير أحزمة ناسفة، تتناثر بعدها الأشلاء في كل مكان. وهكذا، وفي لحظات، ووسط الصراخ والعويل والفوضى، تتجسد قراءات النهار واقعا مأساويا، وتنقلب "ذبيحة القداس غير الدموية" مذبحة دامية تقشعرّ لهولها الأبدان، وتتحول أرض الكنيسة الى بركة دم تعوم فيها الجثث والأشلاء، ربي، مسيحي، أين أنت؟ يكاد تماسُكي ينهار.
غضبٌ مقدس يغلي اليوم في عروقي لم أعرفه يوما من قبل. كفى، طفح الكيل. ألم تقل: "سيبغضونكم من أجل اسمي، ولكن شعرة من رؤوسكم لا تهلك" (لوقا: 21: 18). هل هي شعرة سقطت، أم عشرات أرواح الأبرياء قضت؟ ما ذنبهم؟ أين أنت؟.
- أتراك أنتَ أيضٍا تفكر بامتشاق السيف، كما فعل يوما سميّك بطرس، حين استلّ السيف في بستان الزيتون ليدافع عني في وجه عصابة يهوذا؟ أنسيتَ ما قلتٌه له: ردّ سيفك إلى غمده، فما أنا بحاجة إلى سلاح يحميني، ومن يأخذ بالسيف فبالسيف يهلك. أفنسيتَ ذلك؟
- ربي، عفوك، إيماني اليوم يتزعزع، كما تزعزع إيمان بطرس وهو يمشي على سطح البحيرة
- يا قليل الإيمان، قلتُ له، لماذا شككت؟ ومددتُ يدي فأصعدتُه إلى السفينة، وهدأ البحر.
- ربي، عفوك، فمدّ يدك وانتشلني. ولكن عفوك أيضا، فأنا إلى الآن لا أهضم ما أقرأ واسمع وأرى.
- فكيف إذن تصلي كل يوم: لنصلِّ لأجل مبغضينا ومحبينا، واغفر يا رب لمغضينا وظالمينا؟
- ولكني سألتك يوما: كم مرة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أإلى سبع مرات؟
- ألم أجبك: لا اقول لك: إلى سبع مرات، بل: إلى سبعين مرة سبع مرات؟
- ربي، كلامك صعب!
- فكيف لو تبعتني إلى قمة الجلجلة وسمعتَ آخر كلماتي على الصليب: يا أبتاه إغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون؟
- إذن تريد أن تعود بي إلى بغداد، إلى كنيسة "سيدة النجاة". فمعك إلى هناك، وقد ألقيتُ سلاحي. ومعك أردد: يا أبتاه إغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون
No comments:
Post a Comment