قسوة القلب
بقلم: البابا شنودة الثالث
إن الله ـ تبارك اسمه ـ إله رحيم, يتصف بالحنو والشفقة علي عباده ولا يعاملهم أبدا القسوة. وهو يطيل أناته حتي علي الخطاة منهم, ولايعاملهم بقسوة, ولو أنه عاملهم بما يستحقون, ماكان يمكن أن يخلص أحد.. وهو يريدنا أن نكون أيضا لطفاء بعضنا نحو بعض لانقسو علي غيرنا.
ولا حتي علي الحيوان, ومن هنا وجدت جمعيات للرفق بالحيوان. والقسوة مكروهة من الكل, وبخاصة من أصحاب القلوب الرقيقة.
**ونبدأ أولا بالحديث عن القسوة في محيط الأسرة: فأحيانا يقسو الأب علي أولاد, بحجة الحزم في تربيتهم, وهكذا يفقدهم الحنان الذي يحتاجون إليه منه كمصدر طبيعي للحنان. فيضطر بعضهم الي طلب الحنان من مصدرخارجي غير مضمونة نتائجه, وفي محيط الأسرة قد يقسو الزوج أيضا علي زوجته وبسبب غيرته الخاطئة قد يراقبها في كل أعمالها وأقوالها كما لوكانت متهمة أمامه. وبعض الأزواج قد يحبسون زوجاتهم فلايخرجن إلا بإذن أو بسبب جوهري. بل قد تصل القسوة أحيانا إلي الضرب.. وما أسهل ماينتهي الأمر في مثل هذه العلاقة الزوجية إلي الطلاق أو الخلع.
وهناك نوع آخر من القسوة في محيط الأسرة حينما يطلب الأبناء من آبائهم نفقات معينة تفوق قدرتهم المالية بكثير, وأيضا حينما تطلب الزوجة طلبات فوق قدرة زوجها. ولكن أبشع ماقرأنا عنه في الجرائد هو قسوة بعض الأبناء علي آبائهم أو أمهاتهم لدرجة القتل.عجيب أن يقتل شخص أباه أو أمه في شيخوخة أحدهما وعدم قدرته في الدفاع عن نفسه.. إنه لون من ألوان القسوة البشعة.
** والمعروف أن القسوة تبدأ أولا في القلب, وقد تتطور إلي قسوة في اللسان من جهة الكلمة القاسية أو النظرة القاسية. وقد قال سليمان الحكيم في ذلك: الجواب اللين يصرف الغضب,والكلام الموجع يهيج السخط, ولذلك ننصح كل أحد أن يتخير ألفاظه التي يتكلم بها مع الآخرين فيبعد عن كلمة جارحة وعن كلمات الإهانة, وكلمات التهكم وخصوصا التهكم اللاذع لأنه جارح أيضا. لأن الله لايعاقب فقط علي المعاملة السيئة وإنما ايضا عن مجرد الكلام السييء إن القسوة كما تخرج من القلب وتصل إلي اللسان وإلي النظرة القاسية حينما تصل كذلك إلي المعاملة.ولعلنا نذكر ايضا قسوة الحماة في معاملة زوجة ابنها بحجة محبتها لهذا الابن, بينما عليها ان تحبه للحفاظ علي استقراره في حياته العائلية, وكذلك عليها أن تحب زوجة ابنها باعتبارها ابنة لها أيضا.
إن القسوة تظهر أيضا في درجة العقوبة.. فهناك رئيس في العمل يحاسب بلارحمة علي كل صغيرة وكبيرة وفي قسوته لايمكن أن يجد عذرا لأحد من الذين يعملون تحت رئاسته. وإذا عاقب يفرض أقصي عقوبة ممكنة.. وأحيانا قد تصل عقوبته إلي فصل هذا العامل من وظيفته, والقائه الي الشارع بلا رزق وبلا حنو غير واضح في نفسه مصير هذا الإنسان وأسرته معه! بينما هناك درجات من العقوبات يمكن أن تفرض, أما القساة فيفرضون أصعب العقوبات ولايبالون: وقد توجد القسوة أيضا بين صديق وصديقه, في لون العتاب ودرجته.
فالعتاب القاسي هو الذي يكون بشدة وعنف وباتهامات تكون سببا في ضياع العلاقة بين الاثنين. وكما قال الشاعر:
ودع العتاب فرب شر.. كان أوله العتابا
** إن القلب القاسي هو بعيد عن الوداعة والرحمة وعن الشفقة والحنو, بل انه يتصف بالعنف أيضا. بينما يطلب منا الله أن نكون لطفاء, بعضنا نحو بعض, بعيدين عن القسوة.
**والقسوة عموما منفرة لايقبلها أحد, والقاسي قد يخسر الآخرين, ويعطي صورة سيئة عن نفسه. وما اكثر النتائج الضارة من القسوة للشخص نفسه وللآخرين. وقساوة القلب قد تدفع إلي الحدة والي الغضب, وتشتعل مشاعر القاسي ضد غيره بسرعة ويحتد ويثور ويهدد ولا يحتمل أن يمسه أحد بكلمة, وفي نفس الوقت لايراعي مشاعر الآخرين فيجرح غيره بسهولة وفي لامبالاة, والعجيب أن الإنسان القاسي يجمع بين أمرين متناقضين: فيكون حساسا جدا من جهة المعاملة التي يعامله بها الناس, ولا إحساس له من جهة وقع معاملته القاسية علي الآخرين.والقسوة قد تكون علي الجسد أو علي النفس, فأبشع قسوة علي الجسد هي في تعذيبه, كما كان يفعل الضباط الرومان, ومن أمثلة ذلك ما رأيته في إنجلترا في مكان يسمي بيت الرعب, فيه نماذج من ألوان التعذيب التي حدثت في بعض العصور, أما القسوة علي النفس فيكون ذلك بإذلالها وفي التشهيربها وفي المعاملة المهينة لها ومن أمثال ذلك معاملة العبيد, ويحضرني هنا قول الشاعر:
لاتشتر العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد. حيث كان العبد يحرم من كل حقوقه البشرية أحيانا إلي جوار ضربه وجلده. ونذكر أيضا في هذا المجال المعاملة القاسيةالتي كان البيض يعاملون بها السود في القرون الماضية. وقد تعرض لبعض هذه المعاملة المهاتما غاندي حينما كان محاميا في جنوب إفريقيا قبل ذهابه إلي الهند, ولعل من الأمثلة البارزة للقسوة في التاريخ قسوة فرعون.
** هناك قسوة أخري تظهر في قلب البخيل الذي يرفض أن يحن ويشفق علي المحتاجين مهما كان سوء حالتهم. وهناك لون آخر من القسوة في التعليم الذي يفرض علي البعض درجة فوق مستوي قدرتهم. ومن أمثلة ذلك المعلمون الذين لايراعون المستوي الذي يناسب كل أحد من جهة قدرته الروحية. علي أن هناك أشخاصا قساة القلب من جهة رفضهم لعمل الله في قلوبهم, فهم يرون وصايا الله ثقيلة عليهم, بينما الثقل كله هو في قلوبهم وإرادتهم. الواحد منهم لايتأثر بالكلام الروحي, بل قد يسخر ويتهكم ويرفض السماع!! ومن أمثلة هؤلاء الوجوديون الذين يرون أن وصايا الله تلغي وجودهم وحريتهم فمن الخير أن الله لا يوجد لكي يتمتعوا هم بذلك الوجود الوهمي.
جريدة الأهرام - الأحد 16 من ذى القعدة 1431 هـ 24 اكتوبر 2010 السنة 135 العدد 45247
بقلم: البابا شنودة الثالث
إن الله ـ تبارك اسمه ـ إله رحيم, يتصف بالحنو والشفقة علي عباده ولا يعاملهم أبدا القسوة. وهو يطيل أناته حتي علي الخطاة منهم, ولايعاملهم بقسوة, ولو أنه عاملهم بما يستحقون, ماكان يمكن أن يخلص أحد.. وهو يريدنا أن نكون أيضا لطفاء بعضنا نحو بعض لانقسو علي غيرنا.
ولا حتي علي الحيوان, ومن هنا وجدت جمعيات للرفق بالحيوان. والقسوة مكروهة من الكل, وبخاصة من أصحاب القلوب الرقيقة.
**ونبدأ أولا بالحديث عن القسوة في محيط الأسرة: فأحيانا يقسو الأب علي أولاد, بحجة الحزم في تربيتهم, وهكذا يفقدهم الحنان الذي يحتاجون إليه منه كمصدر طبيعي للحنان. فيضطر بعضهم الي طلب الحنان من مصدرخارجي غير مضمونة نتائجه, وفي محيط الأسرة قد يقسو الزوج أيضا علي زوجته وبسبب غيرته الخاطئة قد يراقبها في كل أعمالها وأقوالها كما لوكانت متهمة أمامه. وبعض الأزواج قد يحبسون زوجاتهم فلايخرجن إلا بإذن أو بسبب جوهري. بل قد تصل القسوة أحيانا إلي الضرب.. وما أسهل ماينتهي الأمر في مثل هذه العلاقة الزوجية إلي الطلاق أو الخلع.
وهناك نوع آخر من القسوة في محيط الأسرة حينما يطلب الأبناء من آبائهم نفقات معينة تفوق قدرتهم المالية بكثير, وأيضا حينما تطلب الزوجة طلبات فوق قدرة زوجها. ولكن أبشع ماقرأنا عنه في الجرائد هو قسوة بعض الأبناء علي آبائهم أو أمهاتهم لدرجة القتل.عجيب أن يقتل شخص أباه أو أمه في شيخوخة أحدهما وعدم قدرته في الدفاع عن نفسه.. إنه لون من ألوان القسوة البشعة.
** والمعروف أن القسوة تبدأ أولا في القلب, وقد تتطور إلي قسوة في اللسان من جهة الكلمة القاسية أو النظرة القاسية. وقد قال سليمان الحكيم في ذلك: الجواب اللين يصرف الغضب,والكلام الموجع يهيج السخط, ولذلك ننصح كل أحد أن يتخير ألفاظه التي يتكلم بها مع الآخرين فيبعد عن كلمة جارحة وعن كلمات الإهانة, وكلمات التهكم وخصوصا التهكم اللاذع لأنه جارح أيضا. لأن الله لايعاقب فقط علي المعاملة السيئة وإنما ايضا عن مجرد الكلام السييء إن القسوة كما تخرج من القلب وتصل إلي اللسان وإلي النظرة القاسية حينما تصل كذلك إلي المعاملة.ولعلنا نذكر ايضا قسوة الحماة في معاملة زوجة ابنها بحجة محبتها لهذا الابن, بينما عليها ان تحبه للحفاظ علي استقراره في حياته العائلية, وكذلك عليها أن تحب زوجة ابنها باعتبارها ابنة لها أيضا.
إن القسوة تظهر أيضا في درجة العقوبة.. فهناك رئيس في العمل يحاسب بلارحمة علي كل صغيرة وكبيرة وفي قسوته لايمكن أن يجد عذرا لأحد من الذين يعملون تحت رئاسته. وإذا عاقب يفرض أقصي عقوبة ممكنة.. وأحيانا قد تصل عقوبته إلي فصل هذا العامل من وظيفته, والقائه الي الشارع بلا رزق وبلا حنو غير واضح في نفسه مصير هذا الإنسان وأسرته معه! بينما هناك درجات من العقوبات يمكن أن تفرض, أما القساة فيفرضون أصعب العقوبات ولايبالون: وقد توجد القسوة أيضا بين صديق وصديقه, في لون العتاب ودرجته.
فالعتاب القاسي هو الذي يكون بشدة وعنف وباتهامات تكون سببا في ضياع العلاقة بين الاثنين. وكما قال الشاعر:
ودع العتاب فرب شر.. كان أوله العتابا
** إن القلب القاسي هو بعيد عن الوداعة والرحمة وعن الشفقة والحنو, بل انه يتصف بالعنف أيضا. بينما يطلب منا الله أن نكون لطفاء, بعضنا نحو بعض, بعيدين عن القسوة.
**والقسوة عموما منفرة لايقبلها أحد, والقاسي قد يخسر الآخرين, ويعطي صورة سيئة عن نفسه. وما اكثر النتائج الضارة من القسوة للشخص نفسه وللآخرين. وقساوة القلب قد تدفع إلي الحدة والي الغضب, وتشتعل مشاعر القاسي ضد غيره بسرعة ويحتد ويثور ويهدد ولا يحتمل أن يمسه أحد بكلمة, وفي نفس الوقت لايراعي مشاعر الآخرين فيجرح غيره بسهولة وفي لامبالاة, والعجيب أن الإنسان القاسي يجمع بين أمرين متناقضين: فيكون حساسا جدا من جهة المعاملة التي يعامله بها الناس, ولا إحساس له من جهة وقع معاملته القاسية علي الآخرين.والقسوة قد تكون علي الجسد أو علي النفس, فأبشع قسوة علي الجسد هي في تعذيبه, كما كان يفعل الضباط الرومان, ومن أمثلة ذلك ما رأيته في إنجلترا في مكان يسمي بيت الرعب, فيه نماذج من ألوان التعذيب التي حدثت في بعض العصور, أما القسوة علي النفس فيكون ذلك بإذلالها وفي التشهيربها وفي المعاملة المهينة لها ومن أمثال ذلك معاملة العبيد, ويحضرني هنا قول الشاعر:
لاتشتر العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد. حيث كان العبد يحرم من كل حقوقه البشرية أحيانا إلي جوار ضربه وجلده. ونذكر أيضا في هذا المجال المعاملة القاسيةالتي كان البيض يعاملون بها السود في القرون الماضية. وقد تعرض لبعض هذه المعاملة المهاتما غاندي حينما كان محاميا في جنوب إفريقيا قبل ذهابه إلي الهند, ولعل من الأمثلة البارزة للقسوة في التاريخ قسوة فرعون.
** هناك قسوة أخري تظهر في قلب البخيل الذي يرفض أن يحن ويشفق علي المحتاجين مهما كان سوء حالتهم. وهناك لون آخر من القسوة في التعليم الذي يفرض علي البعض درجة فوق مستوي قدرتهم. ومن أمثلة ذلك المعلمون الذين لايراعون المستوي الذي يناسب كل أحد من جهة قدرته الروحية. علي أن هناك أشخاصا قساة القلب من جهة رفضهم لعمل الله في قلوبهم, فهم يرون وصايا الله ثقيلة عليهم, بينما الثقل كله هو في قلوبهم وإرادتهم. الواحد منهم لايتأثر بالكلام الروحي, بل قد يسخر ويتهكم ويرفض السماع!! ومن أمثلة هؤلاء الوجوديون الذين يرون أن وصايا الله تلغي وجودهم وحريتهم فمن الخير أن الله لا يوجد لكي يتمتعوا هم بذلك الوجود الوهمي.
جريدة الأهرام - الأحد 16 من ذى القعدة 1431 هـ 24 اكتوبر 2010 السنة 135 العدد 45247
No comments:
Post a Comment