الاهتمام بالغير
بقلم: البابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث
ان اهتمامنا بالغير هو مظهر عملي لمحبتنا للناس, وفي الاهتمام بالغير, لايعيش الإنسان لنفسه فقط, بل يهتم بما لغيره كما يهتم بما لنفسه, وربما أكثر, إذ يؤثر غيره علي نفسه, لو ينسي ذاته في محبته للآخرين, فهو يؤمن تماما ان حياته ليست ملكا له.
انما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه, وفيما يهتم الإنسان الروحي بالكل, نراه يتعب ليستريح غيره, فهو يهتم بمشاعر الناس وفي محاولة إسعادهم, ويندمج في مشاعرهم, دموع الناس تسير من عينيه, وتسقط من جفنيه, وافراح الناس تنبع من قلبه قبل ان تنبع من قلوبهم.
.. أول مثل قدمته لنا الطبيعة في الاهتمام بالغير, هو مثال الأمومة المحبة الحانية, فالأم تفكر في طفلها أكثر مما تفكر في نفسها, تسهر حتي تطمئن انه قد نام, وتتعب لكي يستريح هو, ولاتتبرم بأي طلب يطلبه, تبتسم إذا ابتسم, بل ان ابتسامة هذا الطفل ترتسم علي شفتي امه قبل ان ترتسم كاملة علي شفتيه, لقد أوجد الله في قلب الأم عواطف الحب والحنان والبذل والاهتمام بطفلها أكثر من الاهتمام بنفسها.
.. إن مشاعر الاهتمام بالغير تنزع من القلب الانانية والاهتمام بالذات, فيرفض الإنسان تماما ان يبني راحته علي تعب الآخرين, بعكس ذلك الشخص الذي يلوث الجو بدخان سيجارته,. ولايعبأ في ذلك ان الغير قد تؤذي صحته بتدخينه هو, ويضطر علي الرغم منه ان يستشق الدخان الفاسد الذي ينفثه المدخنون, ولهذا فإن شركات الطيران لاتصرح للركاب بالتدخين في كثير من الرحلات, ومن أمثلة غير المهتمين بغيرهم, من يرفع صوته بطريقة تعكر الهدوء, وتعطل غيره عن التفكير أو القراءة, أو من يركن عربته في موضع تعاكس عربات غيره دون ان يبالي, ولكنها الانانية التي لاتهتم بغيرها.
.. أما الإنسان المهتم بغيره, فلا مانع عنده من ان يتعب ليستريح الغير, وهو لايطلب ما لنفسه, واهتمامه بغيره ينبع من محبته للغير, وأيضا من محبته للخير, وبغيره لايزاحم الناس في طريق الحياة, إنما يفسح لهم الطريق ليعبروه, ولايمتنع في ان يتقدموا عليه وهو يفعل ذلك باهتمام وليس بمجرد شكلية, انه شعور ينبع من قلبه ويدفعه لبذل الجهد الذي يناسب اهتمامه.
.. والاهتمام بالآخرين يشمل العناية بهم من كل ناحية, سواء من الناحية المادية أو الاجتماعية أو من الناحية الروحية, او من جهة نفيستهم ومشاعرهم وراحتهم, وحل مشاكلهم, واشعارهم ان هناك من يسندهم ويقف إلي جوارهم, فإن كثيرين من الذين لايهتم بهم أحد يقول الواحد منهم: لايوجد أحد بما يشعر بما انا فيه, أو يحس بحالتي!!
.. والاهتمام بالغير يكون أحيانا في نطاق العمل. فهناك فرق بين موظف وموظف: الموظف الذي يهتم براحة الجمهور, يظهر اهتماهه في بذل كل الجهد لراحتهم, ودون تأخير, اما الموظف الروتيني, فانه يماطلهم ويطلب إليهم ان يعودوا إليه في موعد آخر, وقد يضع العراقيل في طريق قضاء مصلحتهم, ولذلك اتذكر انني قلت ذات مرة, الموظف المتعاون يحاول ان يجد حلا لكل مشكلة, اما الموظف الروتيني فقد يجد مشكلة لكل حل!!
.. المهتم بالآخرين يظهر اهتمامه بالإسهام في حل مشكلاتهم, إذ يعتبر ان مشكلة الغير كأنها مشكلته شخصيا, ويهتم بحلها مهما كلفه ذلك من جهد, ويكون سعيدا ان وصل فيها إلي حل, لأنه يشعر بفرح في اسعاد الآخرين, وانقاذهم مما هم فيه من ضيقات, ولاشك ان الناس يشعرون باهتمامه واخلاصه, علي الرغم من ان الأمر لايدخل في نطاق مسئوليته ولكن اهتمامه يترك في نفوسهم اثرا عميقا هذا الإنسان الذي يفكر فيهم وفي اسعادهم.
.. والاهتمام بالغير يمكن تطبيقه علي مستوي الاسرة, حيث يبذل الزوج كل طاقته في ان يهتم كل الاهتمام براحة زوجته واولاده, وكذلك الزوجة تهتم كل الاهتمام براحة زوجها, ويهتم الاثنان براحة اولادهما, وان الاهتمام المتبادل فطبيعي ان لاتحدث اطلاقا حوادث الطلاق التي نسمع عنها, ان مثل هذا الاهتمام في محيط الأسرة او بين كل افراد المجتمع, هو مايسميه البعض بالعقد الاجتماعي, حيث يكون الاهتمام علي المستوي الاجتماعي والشخصي, فيتدرب الإنسان في بيته علي الاهتمام بأهله واخوته واقربائه بل وجيرانه أيضا, وفي مكان عمله يتعود كيف يهتم بزملائه, ثم يتطور حتي يهتم بجميع الناس, ويعيش كإنسان نشيط في المجتمع يخدم الكل, ويصير إنسانا خدوما يحب الجميع, وباهتمامه بهم يجذبهم أيضا إلي محبته, وهذا الاهتمام بالغير يشغل فكر الإنسان المحب ويشغل عواطفه, فيتناوله بجدية ولايهمله مطلقا, هناك فرق بين إنسان تطلب تدخله في مسألة معينة, فيقول لك: انا فاكر موضوعك, وبين اخر يقول لك: انا مهتم بموضوعك, ويظهر اهتمامه هذا عمليا, إنسان يهمك امره, فتقابله, وتكلمه باهتمام, وتعامله باهتمام, ويظهر اهتمامك به في طريقه للقائك به وفي تحيتك له, وفي عدم احراجه حينما تساعده, ان اهتمامك بالغير يظهر في ملامح وجهك, وفي نبرات صوتك, انه اهتمام يشعر به من يتعامل معك, دون ان تعلن له انك مهتم به وبما يعرضه عليك من موضوعات.
.. يظهر اهتمامك بالغير أيضا دون ان تطلب هذا منه, فهناك شخص قد يكون في خطر وهو لايشعر بذلك, وقد يحتاج إلي انقاذ دون ان يعرف إلي من يلجأ, ويصل إليك موضوعه بطريق غير مباشر, فتهتم به وتنقذه دون ان يطلب, ويظهر الاهتمام بالغير أيضا في الأمور الروحية, فقد يكون شخص غارقا في عمق الخطية, وهو لايطلب الخلاص منها, لانه لايريد ذلك. وتهتم انت بخلاصة دون أن يسألك معونة في ذلك, وتعمل كل ماتستطيع لكي تقوده إلي التوبة, بكل حب واحتمال وطول اناة, هذا النوع هو الاهتمام الروحي, وقد يكون من عمل الرعاة والمرشدين الروحيين كما يكون من عمل الاجتماعيين الذين يهمهم سلامة أفراد المجتمع من الضياع, مثال ذلك المهتمون بعلاج المدمنين وانقاذهم من الإدمان.
وانت إيها القارئ العزيز لعلك تشارك في الاهتمام بالغير من أي نوع يصل إليك.
جريدة الأهرام - الأحد 5 من رمضان 1431 هــ 15 اغسطس 2010 السنة 135 العدد 45177
بقلم: البابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث
ان اهتمامنا بالغير هو مظهر عملي لمحبتنا للناس, وفي الاهتمام بالغير, لايعيش الإنسان لنفسه فقط, بل يهتم بما لغيره كما يهتم بما لنفسه, وربما أكثر, إذ يؤثر غيره علي نفسه, لو ينسي ذاته في محبته للآخرين, فهو يؤمن تماما ان حياته ليست ملكا له.
انما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه, وفيما يهتم الإنسان الروحي بالكل, نراه يتعب ليستريح غيره, فهو يهتم بمشاعر الناس وفي محاولة إسعادهم, ويندمج في مشاعرهم, دموع الناس تسير من عينيه, وتسقط من جفنيه, وافراح الناس تنبع من قلبه قبل ان تنبع من قلوبهم.
.. أول مثل قدمته لنا الطبيعة في الاهتمام بالغير, هو مثال الأمومة المحبة الحانية, فالأم تفكر في طفلها أكثر مما تفكر في نفسها, تسهر حتي تطمئن انه قد نام, وتتعب لكي يستريح هو, ولاتتبرم بأي طلب يطلبه, تبتسم إذا ابتسم, بل ان ابتسامة هذا الطفل ترتسم علي شفتي امه قبل ان ترتسم كاملة علي شفتيه, لقد أوجد الله في قلب الأم عواطف الحب والحنان والبذل والاهتمام بطفلها أكثر من الاهتمام بنفسها.
.. إن مشاعر الاهتمام بالغير تنزع من القلب الانانية والاهتمام بالذات, فيرفض الإنسان تماما ان يبني راحته علي تعب الآخرين, بعكس ذلك الشخص الذي يلوث الجو بدخان سيجارته,. ولايعبأ في ذلك ان الغير قد تؤذي صحته بتدخينه هو, ويضطر علي الرغم منه ان يستشق الدخان الفاسد الذي ينفثه المدخنون, ولهذا فإن شركات الطيران لاتصرح للركاب بالتدخين في كثير من الرحلات, ومن أمثلة غير المهتمين بغيرهم, من يرفع صوته بطريقة تعكر الهدوء, وتعطل غيره عن التفكير أو القراءة, أو من يركن عربته في موضع تعاكس عربات غيره دون ان يبالي, ولكنها الانانية التي لاتهتم بغيرها.
.. أما الإنسان المهتم بغيره, فلا مانع عنده من ان يتعب ليستريح الغير, وهو لايطلب ما لنفسه, واهتمامه بغيره ينبع من محبته للغير, وأيضا من محبته للخير, وبغيره لايزاحم الناس في طريق الحياة, إنما يفسح لهم الطريق ليعبروه, ولايمتنع في ان يتقدموا عليه وهو يفعل ذلك باهتمام وليس بمجرد شكلية, انه شعور ينبع من قلبه ويدفعه لبذل الجهد الذي يناسب اهتمامه.
.. والاهتمام بالآخرين يشمل العناية بهم من كل ناحية, سواء من الناحية المادية أو الاجتماعية أو من الناحية الروحية, او من جهة نفيستهم ومشاعرهم وراحتهم, وحل مشاكلهم, واشعارهم ان هناك من يسندهم ويقف إلي جوارهم, فإن كثيرين من الذين لايهتم بهم أحد يقول الواحد منهم: لايوجد أحد بما يشعر بما انا فيه, أو يحس بحالتي!!
.. والاهتمام بالغير يكون أحيانا في نطاق العمل. فهناك فرق بين موظف وموظف: الموظف الذي يهتم براحة الجمهور, يظهر اهتماهه في بذل كل الجهد لراحتهم, ودون تأخير, اما الموظف الروتيني, فانه يماطلهم ويطلب إليهم ان يعودوا إليه في موعد آخر, وقد يضع العراقيل في طريق قضاء مصلحتهم, ولذلك اتذكر انني قلت ذات مرة, الموظف المتعاون يحاول ان يجد حلا لكل مشكلة, اما الموظف الروتيني فقد يجد مشكلة لكل حل!!
.. المهتم بالآخرين يظهر اهتمامه بالإسهام في حل مشكلاتهم, إذ يعتبر ان مشكلة الغير كأنها مشكلته شخصيا, ويهتم بحلها مهما كلفه ذلك من جهد, ويكون سعيدا ان وصل فيها إلي حل, لأنه يشعر بفرح في اسعاد الآخرين, وانقاذهم مما هم فيه من ضيقات, ولاشك ان الناس يشعرون باهتمامه واخلاصه, علي الرغم من ان الأمر لايدخل في نطاق مسئوليته ولكن اهتمامه يترك في نفوسهم اثرا عميقا هذا الإنسان الذي يفكر فيهم وفي اسعادهم.
.. والاهتمام بالغير يمكن تطبيقه علي مستوي الاسرة, حيث يبذل الزوج كل طاقته في ان يهتم كل الاهتمام براحة زوجته واولاده, وكذلك الزوجة تهتم كل الاهتمام براحة زوجها, ويهتم الاثنان براحة اولادهما, وان الاهتمام المتبادل فطبيعي ان لاتحدث اطلاقا حوادث الطلاق التي نسمع عنها, ان مثل هذا الاهتمام في محيط الأسرة او بين كل افراد المجتمع, هو مايسميه البعض بالعقد الاجتماعي, حيث يكون الاهتمام علي المستوي الاجتماعي والشخصي, فيتدرب الإنسان في بيته علي الاهتمام بأهله واخوته واقربائه بل وجيرانه أيضا, وفي مكان عمله يتعود كيف يهتم بزملائه, ثم يتطور حتي يهتم بجميع الناس, ويعيش كإنسان نشيط في المجتمع يخدم الكل, ويصير إنسانا خدوما يحب الجميع, وباهتمامه بهم يجذبهم أيضا إلي محبته, وهذا الاهتمام بالغير يشغل فكر الإنسان المحب ويشغل عواطفه, فيتناوله بجدية ولايهمله مطلقا, هناك فرق بين إنسان تطلب تدخله في مسألة معينة, فيقول لك: انا فاكر موضوعك, وبين اخر يقول لك: انا مهتم بموضوعك, ويظهر اهتمامه هذا عمليا, إنسان يهمك امره, فتقابله, وتكلمه باهتمام, وتعامله باهتمام, ويظهر اهتمامك به في طريقه للقائك به وفي تحيتك له, وفي عدم احراجه حينما تساعده, ان اهتمامك بالغير يظهر في ملامح وجهك, وفي نبرات صوتك, انه اهتمام يشعر به من يتعامل معك, دون ان تعلن له انك مهتم به وبما يعرضه عليك من موضوعات.
.. يظهر اهتمامك بالغير أيضا دون ان تطلب هذا منه, فهناك شخص قد يكون في خطر وهو لايشعر بذلك, وقد يحتاج إلي انقاذ دون ان يعرف إلي من يلجأ, ويصل إليك موضوعه بطريق غير مباشر, فتهتم به وتنقذه دون ان يطلب, ويظهر الاهتمام بالغير أيضا في الأمور الروحية, فقد يكون شخص غارقا في عمق الخطية, وهو لايطلب الخلاص منها, لانه لايريد ذلك. وتهتم انت بخلاصة دون أن يسألك معونة في ذلك, وتعمل كل ماتستطيع لكي تقوده إلي التوبة, بكل حب واحتمال وطول اناة, هذا النوع هو الاهتمام الروحي, وقد يكون من عمل الرعاة والمرشدين الروحيين كما يكون من عمل الاجتماعيين الذين يهمهم سلامة أفراد المجتمع من الضياع, مثال ذلك المهتمون بعلاج المدمنين وانقاذهم من الإدمان.
وانت إيها القارئ العزيز لعلك تشارك في الاهتمام بالغير من أي نوع يصل إليك.
جريدة الأهرام - الأحد 5 من رمضان 1431 هــ 15 اغسطس 2010 السنة 135 العدد 45177
No comments:
Post a Comment